ما زلنا في حاجة إلى مزيد من الوعي والإدراك في ثقافة الاختلاف والحوار لأننا مكبلون بطباع نرجسية وموروثات اجتماعية تصوّر لكل واحد منّا أنه الأفهم من الآخر، ويستوي ذلك في دنيا الثقافة والأعمال.. وما إن يأخذ الواحد منا بطرف من العلوم حتى يعتقد أنه الأكثر نضجا وهو يستنكف أن ينتقده الآخر في رأيه!! وتلك الموروثات هي التي نشأ البعض عليها منذ الصغر.. فكم يعد تجاوزا للحدود تحدُّث الصغير أمام الكبير فضلا عن تطفّله ومداخلته في حوار الكبار، الأمر الذي جعلنا نجترّ تلك المفاهيم الثقافية المجتمعية ونوّرثها للأجيال القادمة دون تحليل أو بعد نظر!! وإذا أردنا أن نبني جيلا واعيا مثقفا يملك شخصية متوازنة قادرة على الحضور والإضافة في المشهد الثقافي التنموي فإنه لابد من احترام آراء النشء والتعامل معها بكثير من التقدير والاحترام.. إننا نحتاج حقا إلى مزيد من التدريب والانفتاح على ثقافة الاختلاف حتى نهضم فلسفة الديمقراطية ولا نتشدّق بها حين مطالبتنا بحقوق ونخاصمها أو نتجاهلها إذا جاءت بما لا تشتهي أنفسنا.. وحتى نُكسب الديمقراطية بُعدها التجريبي الواقعي لابد أن نوطّن أنفسنا على احترام الآخر وفكره، حتى وإن اختلفنا معه.. لأن حتمية الاختلاف في الرأي تفرض علينا احترام الآخر.. بل إن نجاح الإنسان ورقيّه الديمقراطي يفرض بناء علاقة ود واحترام مع مخالفيه قبل مؤيديه والاستفادة من آرائهم وأفكارهم حتى يدرك كل منّا أن رأيه إذا كان صحيحا فالاحتمال كبير بأن يكون رأي الآخر هو أيضا صحيح.. وذلك من زاويته.. وثقافته.. فليس ثمة صحيح أو خطأ مطلق فيما يدور بين الناس غير أن كل منا يرى الحقيقة والمشهد من جانبه.. ولذلك نحن ننادي بضرورة التدريب على ثقافة الاختلاف.. ولابد أن ندرك بأنه إذا كان ثمة رؤية لك في ثقافة وفكر الآخر الذي اختلف معك فإن لديه هو الآخر رؤيته المتباينة تماما عما لديك.. وربما تكون وجهات النظر تلك المتباينة هي المفتاح لإثراء أي حوار أو فكر.. وكلمّا صقل المرء مهاراته في أدب الحوار والاختلاف استطاع أن يكسب المهارة والنجاح في العلاقات مع الناس والمجتمع، وأذكر مثلا لأحدهم الذي اختلفت معه يوما ما في الرأي ثم قابلته حين مناسبة.. فبادرت بالسلام عليه وقد قرأت في وجهه الدهشة من تصرّفي وكأنه قد ظن أن اختلافنا في الرأي والحوار قد أفسد العلاقة بيننا!! وهو ظن خاطئ.. ومجتمع المثقفين بالذات جدير بلغة أكثر انفتاحا وتصالحا مع النفس أولا ثم مع الآخرين حتى أولئك الذين اختلفوا معهم.. وليس بالضرورة أن أكون صديقا لك غير أنه في غير صالحك أن تجعلني عدوا.. فالتصالح مع النفس والآخر هي مفاهيم لابد أن تكون نبراس المثقف ولغته في الاختلاف ودرسه للأجيال القادمة التي تتخذنا قدوة ونبراسا.. والدرس القرآني الواضح في سورة هود يضرب مثلا رائعا في احترام الاختلاف، قال الله تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين).. فهل نطمح إلى رؤية مختلفة ينشغل فيها المرء عن الانتصار للأنا بالانتصار للفكر والرأي والمعرفة؛ التي جعلت الفيلسوف الفرنسي (فولتير) يقول: (قد اختلف معك في الرأي ولكنى على استعداد أن أدفع حياتي ثمنا لحقك في التعبير عن رأيك).. وهي قمة الذوق والاحترام للرأي الآخر.دوحة الشعر..كما أن نصف الذي لا نراه بقايا سرابكذلك نصف الذي قد نراه بقايا سحاب
د. عبدالإله بن محمد جدع